السبت، 23 نوفمبر 2013

مصر في العهد العثماني: المؤسسات التعليمية (2)

بسم الله الرحمن الرحيم


و- المكتبات:

وللمكتبات أهمية كبيرة في الحضارة الإسلامية، وقد كانت الدولة المملوكية في عزتها وقوتها، دولة يَكثُر بها المكتبات، ويهتم الناس فيها باقتناء الكُتب. ولم تختلف درجة اهتمام الشعب المصري باقتناء الكتب وإنشاء المكتبات في العصر المملوكي عنه في العصر العثماني، والعمل في نفس الوقت على الحفاظ على الكتب التي ورثوها عن أسلافهم. فمن ناحية أقتناء الكتب وتكوين المكتبات الخاصة، فطبقًا لما سجلته وثائق المحاكم الشرعية، نلحظ اهتمام واضح باقتناء الكتب على مستوى الأفراد، وأن هذا الاهتمام لم يكن يقتصر على فئة اجتماعية معينة، فاقتنى الكتب العلماء والعسكريون، والصوفية، والتجار، والمواطنون العاديون، فكل هؤلاء كانوا يمتلكون مكتبات خاصة في بيوتهم، ولكن من المؤكد اختلاف نوعية الكتب التي تقتنيها كل فئة عن الأخرى. ومن أهم ما يلاحظ من هذه الوثائق كذلك، ارتفاع أسعار الكتب التي يحرص كل فرد على اقتنائها، مما يؤكد على الوعي الثقافي لأفراد المجتمع آنذاك، إن نجد أن من بعض الكتب ما بلغ سعره "12 ألف بارة"، أي ما يساوي 800 أردب قمح في أوقات الرخاء في ذلك الحين.
كما نجد أن قيمة المكتبات الخاصة أحيانًا تستحوذ على قيمة 33% من أجمالي ما يمتلكه الفرد، وهناك من وصلت قيمة مكتبته حوالي 50% من إجمالي ما يمتلكه، وهناك من وصل لـ 74% من إجمالي ما ترك. ومن الملاحظ أيضًا أن المجتمع القاهري هو من كثرت لديه المكتبات الخاصة أكثر من الأقاليم، وقد يكون السبب في هذا أن القاهرة وما تمتلكه من امكانيات غير موجودة بالأقاليم، كالمؤسسات التعليمية العظيمة، وكثرة حوانيت الوراقين، بالإضافة لأسواق القاهرة الكثيرة التي كانت تباع بها تركات الموتى، ومنها مكتباتهم الخاصة.

أما عن محافظة أفراد المجتمع على مكتبات المدارس التي ورثوها عن أسلافهم، فتشير الوثائق لوجود واستمرار وظيفة "خازن الكتب" الذي يعمل على صيانة الكتب والحفاظ عليها بالمدارس، ونرى على سبيل المثال لا الحصر مكتبة "المدرسة المحمودية"، ومكتبة "مدرسة أبو الطيب"، ومكتبة "مدرسة جوهر الالا"، ومكتبة "المدرسة المؤيدية"، ومكتبة "المدرسة البرقوقية"، ومكتبة "مدرسة قايتباي"، ومكتبة "مدرسة السلطان حسن"، وغيرهم، ولعل استمرار تواجد هذا العدد من المكتبات وصولا إلى القرن السابع عشر ونهايته، دليلا واضحًا وردا على كل المتحاملين على العصر العثماني، مثل المؤرخ "عبد الرحمن الرافعي" في كتابه "تاريخ الحركة القومية"، والذي صرح بان خزائن الكتب التي يرجع تاريخ إنشائها إلى العصور السابقة للعصر العثماني، قد تبددت ولم يبق منها إلا القليل بالجامع الأزهر.
ولم يقف حد ثقافة المجتمع المصري على اقتناء الكتب، وتكوين المكتبات والمحافظة على تراثه، بل نرى حرص الكثير من أصحاب المكتبات الخاصة، توفير إمكانية الإطلاع على هذه الكتب، خاصة لغير القادرين على شرائها من طلبة العلم، كما كان يقوم كثير منهم بوقف هذه الكتب بعد موته على طلبة العلم لينتفعوا بها.

وبإطلالة على نوعية الكتب، والعلوم التي دُونت بها، والتي تعطينا نظرة على ثقافة المجتمع في تلك الفترة، نجد من الإطلاع على المؤلفات أن نسبة الأهتمام الأكبر كان تتجه نحو العلوم الدينية، فاللغوية، والفقة، والتفسير، والنحو، واللغة، والبلاغة، والأدب.... ألخ، وكانت هذه النوعية من الكتب هذ الغالبة على بقية العلوم الأخرى، ويظهر كذلك في المكتبات التي اقتصرت على العلوم الدينية واللغوية، أو التي شمت هذه العلوم مع العلوم العقلية، وفي حالات ضيقة وجدت بعض المكتبات التي اقتصرت على العلوم العقلية فحسب، مثل مكتبة الطبيب "شهاب أحمد بن الشيخ خطاب"، عين أعيان السادة الأطباء بالبيمارستان المنصوري آنذاك، والتي تعد من المكتبات المتخصصة، حيث أغلب ما وجد بها كتب عن الطب فقط.
وهناك من الناس من أوقف مكتبته بداخل الأزهر، ووجد من أوقفها ببيته، يذهب إلىه طلبة العلم في منزله، مثل مكتبة الأمير "محمد قانصوه بك"، حيث تعبر هذه المكتبة الثرية القيمة عن ولع هذا الأمير باقتناء الكتب العلمية المتنوعة، فقد حوت كتب نفيسة متنوعة، مثل كتب علم الحديث، وعلم الكلام، والفقه، والفرائض، واللغة، والتاريخ، والبلاغة، والأدب، والطب، والحكمة، والتصوف، وعلم الحرف والزايرجا، وفنون الصنائع، بالإضافة لكتب الفارسية والتركية وغيرها.


* المؤسسات التعليمية بالأقاليم:
ولا نستطيع الحديث بصورة كاملة عن شكل المؤسسات بسائر الأقاليم المصرية؛ نظرًا لضآلة المعلومات المتوفرة عن شكل هذه المؤسسات، وسير الحركة العلمية، ولكن ما لدينا من مصادر من الممكن أن يعطينا توصر عامًا عن شكل الحركة التعليمية، وأبدأ الحديث عن أقاليم الوجه البحري، حيث كانت الحركة العلمية أفضل حالا في الأقاليم البحرية منها بالنسبة للأقاليم القبلية، ويرجع ذلك لاعتبارات عدة، أهمها قرب هذه الأقاليم من القاهرة، بالإضافة لتمتع بعض تلك الأقاليم بموقع استراتيجي أضفى عليها أهمية كبرى كدمياط، والإسكندرية اللتين كانا من أهم الحصون والموانئ التجارية بمصر.

أ- الإسكندرية:
وتعتبر "الإسكندرية" من أهم المدن المصرية التي عايشت نشاطًا مزدهرًا إبان الفترة العثمانية، ويعود ذلك لعدة أمور أهمها:
1- تقع بموقع استراتيجي لكونها من أهم المواني التجارية.
2- من أهم الثغور المصرية على الإطلاق
3- أهم الموانئ لرسو سفن الحجاج المغاربة.
وكان يؤدي السبب الثالث لكثرة الاختلاط العلمي بين السكان في المدينة، وهؤلاء الحجاج، مما أثر بشكل مباشر على انتشار مذهب الإمام مالك في المدينة.
وتعتبر الإسكندرية من أغنى المدن بالمؤسسات التعليمية والدينية، حيث تذكر لنا المصادر ما يؤكد وجود عدد كبير من هذه المؤسسات، لها استحقاق في عوائد جمارك المدينة، ففيها أثنان وثلاثون مقامًا، وتسعة عشر جامعًا وزاوية، أحدى عشر سبيلا، وذلك في القرن السابع عشر فقط. فبالنسبة لمؤسسات التعليم الأولى وجد عدد من المكتاتيب الملحقة بالمدارس، بالإضافة لكتاتيب مستقلة. أما عن المدارس فمنها "المدرسة الفخرية"، "المدرسة العونية"، "المدرسة الدمامنية"، وهي من المدارس التي يُلحق بها مكتب لتأديب الأطفال، و"المدرسة الحنفية"، و"المدرسة الواسطية" الواقعة غرب المدينة، و"مدرسة الشيخ محمد البنوفري"، و"المدرسة الخلاصية"، و"المدرسة الشبراوية". هذا بالإضافة إلى مجموعة من المدارس الجديدة التي تم إنشائها، مثل مدرسة "الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمج" الشهير بالشيرازي المالكي، خارج المدينة بالجزيرة الخضراء، وكذلك "مدرسة عثمان ان الخوجا زين الدين شحاذة القسطيني" والتي كانت كذلك خارج المدينة بالجزيرة الخضراء، والذي يدل على حرص سكان المدينة على استمرار الحركة العلمية بها.

ب- دمياط:
وتعتبر واحدة من أغنى وأنشط الأقاليم المصرية بصفة عامة في المجال العلمي والثقافي، ويرجع ذلك لكونها ميناء هام، ومركز تجاري كبير. والحق أن نقول أن الشهيرة العلمية لدمياط، لم تكن وليدة الفترة العثمانية، بل ترجع جذورها للعصور التي سبقت العصر العثماني، وكانت مؤسسات التعليم الأولي بالمدينة، والتي تمثلت في الكتاتيب، والزوايا، والمقامات، والتكايا، بعد حجر الأساس لهذه المؤسسات، وغالبا ما وجدت الكتاتيب بالمدينة تابعة أو ملحقة لشيء آخر.
أما مؤسسات التعليم العالي فانحصرت بين المدرسة والجامع، فالجوامع انحصرت بين "الجامع الكبير" أو "الجامع البحر"، والذي كان يُعد من أهم المؤسسات العلمية وأنشطها بدمياط، إلى حد تشبيه النشاط العلمي به بالنشاط الموجود بالأزهر، والذي درّس فيه العلّامة "ابن النقيب البيروتي الشافعي". أما الجوامع الأخرى التي وُجد بها نشاطًا علميا فمنها "جامع لقمان"، "جامع النعمان"، "جامع البكري"، "الجامع البدري". أما المدارس فوجد مجموعة كبيرة منها شهدت رواجًا علميًا، وكانت لها اعتمادات مالية ضخمة، والذي أعطاها استقلالية كبيرة، حيث تستطيع القول أن كل مدرسة مثلت "كلية مستقلة" لها مواردها الخاصة، مما أنعكس على أدائها التعليمي.
ويأتي على رأس هذه المدارس "المدرسة المتبولية"، التي أنشئها السلطان "قايتباي"، وكانت ضخمة لدرجة وجود "مطبخ" بها لطبخ الطعام للمدرسين والطلبة والوظفين، إضافة لمكتب لتعليم الأطفال، وكانت وقفًا على علماء الشافيعة. حيث درس بها كل من الشيخ العالِم "شمس الدين محمد الشوبري الشافعي"، الشيخ "شمس الدين محمد بن علم الدين سليمان". كذلك نجد من المدارس "المدرسة المعنية"، و"المدرسة المسلمية"، "المدرسة الحلمية"، "المدرسة العوتبانية"، "المدرسة البرقوقية"، "المدرسة الفاعلية"، "المدرسة الناصرية"، بالإضافة لمدارس جديدة بنيت في القرن السابع عشر مثل المدرسة التي أنشاها الأمير "مصطفى أرنؤد" كاشف إقليم الدقهلية آنذاك.

* الأقاليم الأخرى في الوجه البحري:
ومن أقاليم الوجه البحري التي شهدت حركة علمية نشطة إبان تلك الفترة "إقليم الغربية"، الذي تمتع بعدد من المؤسسات التعليمية، سواء تلك التي تنتمي إلى مرحلة "التعليم الأولي"، أو "التعليم العالي"، فمن مؤسسات التعليم الأولي مكتب "تأديب الأطفال" الكاين بباب السلسلة  -أنذاك- وزاوية الشيخ "شهاب الدين الطبلاوي" الشافعي، التي كان يتم فيها قراءة القرآن الكريم، وتحفيظة  وتدريس الحديث الشريف.
أما عن مؤسسات التعليم العالي به، فنجد منها تلك المدرسة التي كانت تقع بناحية "ابن الكنانين"، وهي من منشآت العصر المملوكي، علي أن من أكثر مؤسسات هذا الأقليم شهرة في هذا المجال "الجامع الأحدمدي"، نسبة إلى السيد "أحمد البدوي"، ومن الحق القول بأن شهرة هذا الجامع في المجال التعليمي لم تقف عند حدود إقليم الغربية، بل تخطته إلى أقاليم الدلتا بوجه عام، حيث كان يجذب إلىه كثيرًا من طلبة تلك الأقاليم لتلقي التعليم فيه؛ لكونه أقرب مسافة وأقل كلفة من التعليم بالعاصمة، بل تعدى نشاطه أقاليم "الوجه البحري" إلى نزوح بعض طلاب العلم من الوجه القبلي لتلقي العلم علي يد علمائه.

وقد خرج من هذا الإقليم العديد من العلماء الذين كان يشار إلىهم بالتفرد في مختلف العلوم، ومنهم من كان مقصدًا لطلبة العلم من المشرق والمغرب، كالشيخ العالِم "محمد بن قاسم إسماعيل البقري المقري" (ت1698م) نسبة إلى قرية "دار البقر"، وهي من قرى المحلة بالغربية، حيث نجده بعد إتمام حفظ القرآن الكريم ببلدته، ينتقل إلى القاهرة لإتمام تعليمه بالجامع الأزهر، إلى أن تفرد في علم القراءات والتجويد، فقصده الطلاب وتخرج علي يديه خلق كثيرة من المشرق والمغرب.
وهناك أقاليم أخرى في الوجه البحري كانت ذات نمط تعليمي ملحوظ في ذلك الحين، ومنها إقليم الدقهلية، الذي  تواجد به مؤسسات تعليمية تمثل المرحلتين الأولية والعليا، فمن مؤسسات المرحلة الأولى نجد مكتبًا لتأديب الأطفال، وكان ملحقًا بالجامع الذي كان يقع بخط القسم، والذس أنشاءه "مصطفى جاويش" الشهير بأبي طبق.
ومن مؤسسات المرحلة الثانية، جامع "المحمودية" بالمنصورة، وكان من مدرسيه الشيخ "إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن المالكي". كما نجد من تلك الأقاليم أيضا إقليم "السويس" إذ نرى من مؤسساته التعليمية مدرسة "العفرية"، وغير ذلك من المؤسسات الأخرى.

هكذا وعلي الرغم من ضآلة إشارات المصادر إلى المؤسسات التعليمية لبعض الأقاليم، إلا أنها تعطينا دلالات شبة واضحة علي مدي نشاط الحركة التعليمية وإهتمام أولي الأمر بالتعليم في تلك الأقاليم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق