السبت، 23 نوفمبر 2013

مصر في العهد العثماني: المؤسسات التعليمية (1)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ويشمل هذا الجزء من البحث الحديث عن المؤسسات التعليمية ونشاطها، فنبدأ بمؤسسة التعليم الأولى "الكُتاب"، وحتى مرحلة التعليم العالي "الأزهر"، بخلاف بعض المؤسسات اﻷخرى كالمدارس والخوانق والزوايا. وكانت جُل هذه المؤسسات تعتمد على الأوقاف، والتي عندما دخل السلطان "سليم الأول" مصر أقر باستمرار ما كان قائمًا منها، وألا يتعرض أحد لها بشيء، كما أصدر القانوني فرمانًا يُجرم من يتعرض للأوقاف بضرر أو أذى.


أ- الكتاتيب:

يُعتبر الكُتاب من أقدم دور التعليم التي عرفتها الدول الإسلامية، وكذلك عرفتها الشعوب السابقة قبل الإسلام. والكُتاب عبارة عن مكان متواضع (غرفة) منسجمة بعض الشيء ومفروشة بالحصر، يجتمع فيها الأطفال مع معلمهم، حيث يتعلم الأطفال القراءة والكتابة والحساب، وحفظ القرآن الكريم. وقد انتشر هذا النوع من التعليم في جميع أنحاء مصر، ولم يكن قاصرًا على القاهرة فقط، بل كان في كل مدينة سواء كانت كبيرة أو صغيرة. وبالإطلاع على وثائق المحاكم الشعرية الخاصة بهذا العصر، تبين مدى تنافس اﻷفراد في انشاء هذا النوع من المؤسسات التعليمية، بالإضافة إلى الأوقاف الكثيرة التي كانت تُرصد على هذه الكتاتيب.

وكانت الدراسة في هذه المؤسسة تبدأ بسن 6 سنوات، عادة ما يبدأ الطفل فيها بتعلم أسس القراءة والكتابة، وحفظ جزء "عم"، وكان يعتمد الحفظ على التكرار وبصوت مسموع. وكان من بين الشروط الواجب توافرها في "المُعلم" أو "المؤدب" أن يكون من أهل الخير والعفاف، بجانب حفظه للقرآن، وبعد اتمام الطفل حفظه للقرآن الكريم، يُقام له احتفال بهيج يشترك فيه جميع الصبيان من زملائه في المكتب، ثم يتجه بعد الُكتاب للدراسة إما في "الأزهر الشريف"، أو أحد المساجد التعليمية الكبرى مثل مسجد "السيد البدوي" بطنطا، أو الاتجاه للاشتغال بالزراعة وغيرها.
وليس دليل أقوى على اهتمام المجتمع المصري في هذا العصر بمؤسسة الكتاتيب من إشراف قاضي القضاة بنفسه عليها في بعض الأحيان، كما تشير بعض الوثائق الأرشيفية بذلك، والتي تنص على قيام بعض الأطباء بعمل فحص للأطفال الذين "بلغوا الحُلم" لعزلهم وإلحاق آخرين مكانهم.
وبلغ عدد الكتاتيب في مدينة القاهرة وحدها في القرن السابع عشر 89 كُتاب يدرُس بها تلاميذ المدينة، وقد أُنشئت الكثير من الكتاتيب في هذا القرن، مما يدل على اهتمام المجتمع بدور هذه المؤسسة. وقد تفاوتت هذه الكتاتيب من حيث عدد تلاميذها والرواتب التي تُمنح للأطفال الدراسين والمؤدب ومساعده. ونضرب أمثلة صغيرة على هذه الكتاتيب التي أُنشئت :
أ- 1591- مكتب الأمير سليمان محمد الجباص
ب- 1598- مكتب الجمالي محمد عبد الله
ج-  1608- مكتب شهاب الدين أحمد بن شمس الدين
د- 1608- مكتب ناصر الحاج يحيى الشهير بابن مسرة الحلبي
هـ- 1610- مكتب الشيخ زين الدين بن عبد المعطي البنوفري
و- 1638- مكتب مصطفى بك كبر اللواء الشريف السلطاني
وهذه الأمثلة اليسرة التي هي جزء مما تم إنشاءه، قام بانشائها الأمراء العسكريين، حيث ارتفع الوضع الاقتصادي لهم، ونجد كذلك التجار ممكن شاركوا في القيام بأعمال الخير الهامة، ومن الملاحظ كذلك أن أصحاب هذه الكتاتيب كانوا يُخرجون مبلغ مالي كل شهر لتنظيف تلك الكتاتيب وملحقاتها، والحرص على توفير جو صحي للتلاميذ.

ب- الزوايا:
وهي أول ما أنشئت كركن من أركان المساجد للعبادة والاعتكاف، ثم تطورت بعد ذلك إلى أبنية صغيرة للتعليم والصلاة والعبادة، يتخذها أحد المشايخ المشهورين بالتقوى والصلاح سكنًا له. والحقيقة أن المجتمع أكثر من إنشاء مثل هذه المؤسسات في العهد العثماني، حيث غلب النهج الصوفي على هذه الدور. وقد وجد زوايا لتعليم الأطفال القراءة والكتابة بالإضافة لحفظ القرآن، وبرنامج تعليمي لهم، يعلمهم كيفية استخراج المعلومات من الكتاب، وكيفية الوضوء للصلاة، بالإضافة لرواتب شهرية للأطفال، وطعام وأدوية وأقلام ومداد وغير ذلك.

ج- الخوانق:
و"الخانقة" كلمة فارسية معناها "بيت"، جعلت للصوفيين للعبادة. والواضح أن الخانقة التي سُميت فيما بعد "بالتكية" قد خرجت عن الدور الذي أُنشئت من أجله كدور للعبادة، وأصبحت تمارس نشاطًا تعليميًا، حيث أنصب التعليم في هذه المؤسسات على الأحاديث وروايتها، بالإضافة للتعاليم الصوفية. ومن الخانقاوات التي مارست دورًا تعليميًا في تلك الفترة تكية "سليمان پاشا" الواقعة بخط جامع قوصون.

د- المساجد:
وتعتبر المساجد من أقدم المؤسسات التعليمية وأهمها في تاريخ الإسلام، فهو بتميز عن غيره بالحرية في اختيار المدرسين والطلبة للمناهج الدراسية، وأسلوبها وأوقاتها في أغلب الأحيان. وقد شهد المسجد بمصر العثمانية نشاطًا تعليميًا ملحوظًا، فقد تمتعت مصر بكثير من المساجد الكبيرة المشهورة، والتي مارست نشاطًا تعليميًا خلال تلك الفترة سواء في "القاهرة" أو "الأقاليم". ومن المساجد الهامة التي مارست دورًا تعليميًا مسجد "ابن طولون" بالقاهرة، والذي رتب فيه دروسًا للفقه على المذاهب الأربعة، ودرس للتفسير، ودرس للحديث، ودرس للطب، ودرس للميقات، وغيرها. كذلك جامع ""المارداني" أحد أهم جوامع القاهرة بإطلاق، حيث يشهد على قوة الحركة العلمية بهذا المسجد، وجود وظيفة "كاتب غيبة" -لتسجيل الحضور والغياب- لكل من المدرسين والطلاب الذين يواظبون على حضور الدروس العلمية. ومن الجوامع التي شهدت حركة علمية كذلك "الجامع الحسيني" أو "المشهد الحسيني"، الذي كانت تُدرس فيه علوم شتى كالفقه والتفسير والحديث، والذي كان يدرس فيه الشيخ العلامة "أبي السرور الصديقي"، الذي كان يلقي به درس في "علم التفسير" أمام وزير مصر "محمد پاشا"، فلم تحظ مؤسسة تعليمية برصد الأموال عليها كما حظيت مؤسسة "المشهد الحسيني".

هـ- المدارس:
ويختلف المؤرخون حول أول من بناها في الإسلام، إلا أن الأتفاق بينهم على أن لها وظيفة "تربوية" هامة جدا، فالنمو التعليمي في مجالات العلوم العقلية والطبيعية والرياضيات، كان يستلزم مكانًا آخر بخلاف المسجد، الذي يجب أن يكون بعيدًا عن التجارب المعملية والنقاشات الحادة. وقد أدخل بعض التعديلات على المدارس في العصر المملوكي، حيث أصبحت "المدرسة الخانقاة" بجمع بين الخانقاة التي تم ذكرها سابقًا بداخل المدرسة، أما في العصر العثماني، فقد طرأت وظيفة استخدام المدارس كمقار للمحاكم الشرعية، ومن ذلك عندما اتخذت "دار الحديث المدرسة الكاملية"، لتكون مقر لمحكمة القسمة الغربية. وقد وُجد في القرن السابع عشر حوالي 61 مدرسة بالقاهرة فقط، الأمر الذي يبطل الرأي القائل أن الحركة العلمية انطفأت بقدوم العثمانيين، وأنها اقتصرت على الأزهر فقط. وكثيرا ما تخبرنا وثائق ذلك العصر على محافظة الشعب على تلك المؤسسات ولُجؤهم للإدارة والقضاء في حالة ضرر أصابها، على أنه -للأمانة التاريخية- يجب الإشارة أن الحكم العثماني كان قليل التدخل في مثل هذه الشئون، إلا أن الإدارة العثمانية بمصر وعلى رأسها "الپاشا" كانت تستجيب على الفرد لتحركات الأفراد للإنقاذ السريع لتلك المؤسسات، فكانت ترسل إلى الجهة المختصة بالإصلاح لسرعة المعاينة والكشف على المبنى المتضرر. وتعتبر أهم المدارس التي أُنشئت في القرن السابع عشر:

1- مدرسة "ألتى برمق" (وتعني بالتركية ذو الأصابع الست)، والتي تنسب للعالِم الشيخ "محمد بن محمد" المعروف بألتى برمق.
2- مدرسة الأمير مصطفى: وتنسب للأمير "أرنؤط بن حسين"، وذلك في العام 1638، وقد انحصر التدريس فيها وتخصصت في الفقه الشافعي.
3- مدرسة محمد پاشا أبو النور: وهو أحد الوزراء الذين تولوا مصر من 16 مارس 1651 إلى 9 سبتمبر 1652، وكانت له اهتمامات خاصة بالحركة العلمية، وخاصة المنشئات المتعلقة بها، وقد لقب بأبي النور؛ لأنه أمر أيام ولايته لنظار الجوامع بالقاهرة والفسطاط أن يبيضوا الجوامع والمساجد والرباطات والمشاهد، فبيضوها جميعًا، ولهذا أطلق عليه هذا الاسم. وقد بنى جامعًا عظيمًا بالقرب من خط الخليفة، ومدرس للحديث، وصهريجًا، ومكتبًا لتعليم الأطفال القرآن، وقد كان يكرم الموظفين الذين يعملون عنده، فبالإضافة للأجور كان يخصص لهم حصص من الغلال إضافية، وأشربة وخبز.
4- مدرسة إسماعيل پاشا: بجوار ديوان السلطان "قايتباي"، أنشأها إسماعيل پاشا الوزير، وقد اقتصرت على علم الحديث فقط.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق